كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ، فرفعُ {الأوْلَيَان} فيها أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وخبره {آخرَانِ}، تقديره: فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ، وتقدَّم شرحُ هذا.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هما الأوْليانِ؛ كأنَّ سائلًا يسأل فقال: «من الآخَرَانِ»؟ فقيل: هما الأوْلَيَانِ.
الثالث: أنه بدلٌ من {آخَرَان}، وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه؛ نحو: «جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ» وهذا عندهم ضعيفٌ؛ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقَّاتِ قليلٌ.
الرابع: أنه عطفُ بيان لـ {آخَرَانِ} بيَّن الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ، فإن قلت: شرطُ عطفِ البيانِ: أن يكون التابعُ والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ؛ خلافًا لأبي عَليّ، و{آخَرَانِ} نكرةٌ، و{الأوْلَيَانِ} معرفةٌ، قُلْتُ: هذا سؤالٌ صحيحٌ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه: أمَّا الأخفشُ فإنه يُجيزُ أنْ يكون {الأوْلَيَانِ} صفةً لـ {آخَرَانِ} بما سأقرره عنه عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ، فإذا جاز في النعْتِ، جاز فيما هو شبيهٌ به؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت، وأمَّا الزمخشريُّ، فإنه لا يشترطُ ذلك- أعني التوافُقَ- وقد نَصَّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] عطفُ بيان؛ لقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97]، و{آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} نكرةٌ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ، قَرُبَتْ من المعرفة، كما تقدَّم عنه في موضعه، وكذا {آخَرَانِ} قد وُصِفَ بصفَتيْنِ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة.
الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ {يَقُومَانِ}.
السادس: أنه صفةٌ لـ {آخَرَانِ}، أجازَ ذلك الأخفشُ، وقال أبو عَلِيٍّ: «وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئًا آخَرَ، وهو أن يكُون {الأوْلَيَانِ} صفةً لـ {آخَرَانِ}؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ، تخصَّصَ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه، وُصِفَ بوصف المعارف»، قال أبو حيان: «وهذا ضعيفٌ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ، ولا العَكْس»، قلتُ: لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ، فمنها ما حكاه الخليلُ: «مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ» في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ، ومنها {غَيْرِ المغضوب} [الفاتحة: 7] على القولِ بأنَّ {غَيْر} صفةُ {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، وقوله: [الكامل]
وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي ** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي

وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 73]، على أنَّ «يَسُبُّنِي» و{نَسْلَخُ} صفتان لما قبلهما؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ؛ فاعتبار أنَّ «الأوْلَيَيْنِ» لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان، قَرُبَا من النكرةِ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي؛ فصار في ذلك مسوِّغان: قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء: «والخَامِسُ أن يكون صفة لـ {آخَرَانِ}؛ لأنه وإنْ كان نكرةً، فقد وُصِفَ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما».
السابع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله بـ {اسْتُحِقَّ}، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا، قَدَّر قبله مضافًا محذوفًا، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ، فقال مكي: «تقديرُه: استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ»، وكذا أبو البقاء وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ فقال: «مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ»، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ {الأوْلَيَانِ} بـ {اسْتُحِقَّ} أبو عليٍّ الفارسِيُّ، ثم منعه؛ قال: «لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئًا منها، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما»، قلتُ: إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ {اسْتُحِقَّ} إليهما؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم، وهذا الذي منعه الفارسيُّ ظاهرًا هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ، وتقديرُ الزمخشريِّ بـ «انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ» أحسنُ من تقدير غيره؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ، وأمَّا إضمارُ «الإثْم» فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ.
وأجازَ ابن عطيَّة أن يرتفعَ {الأوْلَيَانِ} بـ {استُحِقَّ} أيضًا، ولكن ظاهرُ عبارته؛ أنه لم يُقَدَّر مضافًا؛ فإنه استشعر بإستشكالِ الفارسيِّ المتقدِّم، فاحتالَ في الجواب عنه، وهذا نَصُّه، قال ما ملخَّصُه: إنَّه «حُمِلَ {اسْتُحِقَّ} هنا على الاستعارةِ؛ فإنه ليس استحقاقًا حقيقةً؛ لقوله: {اسْتَحَقَّا إثْمًا}، وإنما معناه أنَّهم غَلَبُوا على المالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعدمه؛ لقرابته أو أهل دينه؛ فجعل تسوُّرَهُمْ عليه استحقاقًا- مجازًا، والمعنى: من الجماعة التي غابت، وكان منْ حَقِّها أنْ تُحْضِرَ وليَّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصِي، استحقَّت هذه الحالَ، وهذان الشاهدانِ من غير أهْل الدِّين والولاية، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة، فبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازًا، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعديِّي الفعلِ بـ «عَلَى» لمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ، هَيَّأتْهُ الحالُ، ولا يُقال: اسْتَحَقَّ منه أو فيه إلاَّ في الاسْتِحْقَاقِ الحقيقيِّ على وجههِ، وأمَّا «اسْتَحَقَّ عليْهِ» فالبحَمْلِ والغلبةِ والاستحقاقِ المُسْتَعَارِ».
انتهى، فقد أسند {اسْتَحَقَّ} إلى {الأوليان} من غير تقدير مضافٍ متأوِّلًا له بما ذكر، واحتملتُ طول عبارته؛ لتتَّضِحَ.
واعلم أنَّ مرفوع {اسْتُحِقَّ} في الأوجهِ المتقدِّمة- أعني غيرَ هذا الوجهِ، وهو إسنادُه إلى {الأوْليانِ}- ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظًا أو سياقًا، واختلفت عباراتُهم فيه، فقال الفارسيُّ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء والزمخشريُّ: إنه ضميرُ الإثْمِ، والإثمُ قد تقدَّمَ في قوله: {اسْتَحَقَّا إثْمًا}، وقال الفارسيُّ والحُوفِيُّ أيضًا: «اسْتُحِقَّ هو الإيصاءُ أو الوصيَّةُ» قال شهاب الدين: إضمارُ الوصيَّة مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِدَ الفعلُ إلى ضمير المؤنَّثِ مطلقًا، وَجَبَتِ التاءُ إلاَّ في ضرورة، ويُونُسُ لا يَخُصُّه بها، ولا جائزٌ أن يقال أضْمَرَا لفظ الوصيَّة؛ لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ، وقال النحَّاس مستحْسِنًا لإضمارِ الإيصَاءِ: «وهذا أحسنُ ما قِيلَ فيه؛ لأنَّه لم يُجْعَلْ حرفٌ بدلًا من حرفٍ»، يعني أنه لا يقُول: إنَّ «عَلَى» بمعنى «في»، ولا بمعنى «مِنْ» كما قيل بهما، وسيأتي ذلك- إن شاء الله تعالى-.
وقد جمع الزمخشريُّ غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإعْرَابِ والمعنى بأوجز عبارةٍ، فقال: «ف {آخَرَانِ}، أي: فشَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذينَ اسْتُحِقَّ عليهِم، أي: استُحِقَّ عليْهِمُ الإثمُ، ومعناه: مِنَ الذين جُنِيَ عليهمْ، وهم أهلُ الميِّتِ وعشيرتُهُ والأوليانِ الأحقَّانِ بالشَّهادةِ لقَرَابَتهِمَا ومَعْرِفَتِهِمَا، وارتفاعُهُمَا على: «هُمَا الأوْلَيَانِ»؛ كأنه قيل: ومَنْ هُمَا؟ فقيل: الأوْلَيَانِ، وقيل: هما بدلٌ من الضَّمير في {يَقُومَانِ} أو من {آخَرَانِ}، ويجوزُ أنْ يرتفِعَا بـ {اسْتُحِقَّ}، أي: من الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ انتدابُ الأوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ للشهادة؛ لاطِّلاعهم على حقيقة الحَالِ».
وقوله: {عَلَيْهِم}: في «عَلَى» ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها على بابها، قال أبو البقاء: «كقولك: وَجَبَ عليهم الإثْمُ»، وقد تقدَّم عن النحَّاس؛ أنه لمَّا أضْمَرَ الإيصاءَ، بَقَّاها على بابها، واستحْسَنَ ذلك.
والثاني: أنها بمعنى «في» أي: استُحِقَّ فيهم الإثمُ، فوقَعَتْ «عَلَى» موقع «في» كما تقعُ «في» موقعها؛ كقوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي: على جُذُوعِ، وكقوله: [الكامل]
بَطَلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ** يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ

أي: على سَرْحةٍ، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ فيهم الوصيَّةُ».
والثالث: أنها بمعنى «مِنْ» أي: استُحِقَّ مِنْهُمُ الإثْمُ؛ ومثلُه قولُه تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: مِنَ الناس، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ منهم الأوْليَانِ» فحينَ جعلها بمعنى «في» قدَّر «اسْتُحِقَّ» مُسْنَدًا للوصية؛ وحين جعلها بمعنى «مِنْ»، قدَّره مُسْنِدًا لـ {الأوْلَيَانِ}، وكان لَمَّا ذكر القائمَ مقامَ الفاعلِ، لم يذكر إلا ضميرَ الإثم و{الأوْلَيَانِ}، وأجاز بعضهم أنْ يُسْنَدَ {اسْتُحِقَّ} إلى ضمير المالِ، أي: اسْتُحِقَّ عليْهِمُ المالُ المَوْرُوثُ، وهو قريبٌ.
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوعِ {اسْتُحِقَّ} خمسة أوجه:
أحدُها: {الأوْلَيَانِ}.
والثاني: ضميرُ الإيصاء.
والثالث: ضميرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدَّم إشكالُه.
والرابع: أنه ضميرُ الإثْمِ.
والخامس: أنه ضميرُ المالِ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون {عَلَيْهِم} هو القائمَ مقامَ الفاعلِ؛ نحو: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً.
وأمَّا قراءةُ حَفْص فـ{الأوْلَيَانِ} مرفوعٌ بـ {اسْتَحَقَّ} ومفعولُه محذوفٌ، قدَّره بعضهم «وصِيَّتَهُمَا»، وقدَّره الزمخشريُّ بـ «أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة»؛ فإنه قال: «معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة: أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة، ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ»، وقال ابنُ عطيَّة: {الأوْلَيَانِ} رفعٌ بـ {اسْتَحَقَّ}، وذلك أن يكون المعنى: مِنَ الَّذِينَ استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ، فَسُمِّيَا أوْلَيَيْنِ، أي: صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ، فَخَانَا، وجَارَا فيها، أو يكونُ المعنى: من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ منهم، فاستَحَقَّ بمعنى: حَقَّ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ، أو يكون استحقَّ بمعنى: سَعَى واستوجب، فالمعنى: من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ، فاستَحَقَّا عليهم، أي: استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه، واستوجَبَاهُ بأيْمَانِهِمَا وقُرْبَانِهِمَا، قال أبو حيان- بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ، وأبي محمَّدٍ ما قدَّمْتُه عنهما-: «وقال بعضُهم: المفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: الذين استحقَّ عليهمُ الأوليانِ وصيَّتَهُمَا»، قال شهاب الدين: وكذا هو محذوفٌ أيضًا في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة، وقد بَيِّنْتُهما ما هما، فهو عند الزمخشريِّ قوله: «أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة»، وعند ابن عطيَّة هو قوله: «مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ»، فقوله: «وقال بعضهم: المفعولُ محذوفٌ» يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضًا، وممن ذهبَ إلى أن {اسْتَحَقَّ} بمعنى «حَقَّ» المجرَّدِ- الواحديُّ فإنه قال: «واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي: وَجَبَ، والمعنى: فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم، وهم وَرَثَتُه» وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو محمَّد على هذا الوجه، وهو ظاهرٌ.
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ، فمرفوع {استُحِقَّ} ضميرُ الإيصَاءِ، أو الوصيةِ، أو المالِ، أو الإثمِ، حَسْبما تقدَّم، وأمَّا «الأوَّلَيْنِ» فجمعُ «أوَّل» المقابل لـ «آخِر»، وفيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه مجرورٌ صفةً لـ {الَّذين}.
الثاني: أنه بدلٌ منه، وهو قليلٌ؛ لكونه مشتقًّا.
الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في {عَلَيهم}، وحسَّنَه هنا، وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ مكيٌّ.
الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، ذكره الزمخشريُّ، قال: «ومعنى الأوَّلِيَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة؛ لكونهم أحَقَّ بها»، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على الأجَانِب؛ جَرْيًا على ما مَرَّ في تفسيره: أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ.
وقال الواحديُّ: وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ، وإنما قيل لهم «الأوَّلِينَ» من حيث كانوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وكذلك {اثنان ذَوَا عَدْلٍ} ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، وكان ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة، ويقول: «أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ، كيف يَقُومَانِ مقامهما»؟ أراد: أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين مقامَ الحانِثَيْنِ، ونحا ابن عطية هذا المنحَى قال: «معناه: من القوْمِ الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ، أي: غُلِبُوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون، أي: في الذكْرِ في هذه الآية».
وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ بـ {استَحَقَّ} فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل، قال الزمخشريُّ: «ويَحْتَجُّ به مَنْ يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي»، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ، والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ؛ وهذه القراءةُ كقراءةِ حَفْصٍ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ.